نشرت بمجلة البلاغ بتاريخ 5 / 8 /1973

بسم الله الرحمن الرحيم

الحرية الإنسانية

بقلم سيف الله أحمد فاضل

إن الذين يقولون أن الإنسان مسير إنما ينعتونه بصفة من صفات الجماد و يلغون كلية العقل الإنساني فما هو معنى وجود العقل إذا كان الإنسان مسيرا بإرادة أقوي منه لا يملك منها فكاكا ،و لما كانت هذه المسألة مسألة دينية في المقام الأول يراد بها البحث عن العلاقة بين الحرية الإنسانية وبين الله كان بحثها من واقع الكتب العقائدية أجدى من دراستها من كتابات الفلاسفة .

وهناك خلط شائع في معنى الحرية الإنسانية ،فالإنسان يخلق و يصور ، يولد ويموت ، في بيئة محددة له، ومن أبوين محددين لا يملك أن يغيرهما، ويمر بظروف معينة له أرادها الله وذلك لأن الإنسان شاء أم لم يشاء عبد الله ،ولكن هذا لا يجعل الإنسان مسيرا ،وإن كان من المؤكد انه لم تكن له إرادة قبل خلقة .ومن ذلك قول الله تعالي " وربك يخلق ما يشاء و يختار ما كان لهم الخيرة سبحان الله وتعالى عما يشركون ً ( القصص :68 ).

وقد ورد هذا المعنى أيضا في كتاب اليهود ( أشعيا 45: 9) ،وورد في كتاب المسيحيين ( الرسالة إلى رومية 9 :20 )

وفى إنجيل برنابا أثار اليهود هذه القضية من قبل فسألوا المسيح بن مريم علية السلام لماذا حرم الله الشجرة علي آدم و حواء ثم أراهما إياها ،وهل أراد الله أن يأكلا منها أم لا ؟فأجابهم إنه من الخطأ أن نسأل لماذا لا يفعل الله هذا أو ذاك، وهذا ما أكده القرآن الكريم وتوراة أنبياء اليهود ( الأنبياء : 23، أشعيا 45: 11) ثم قال لهم أن تحريم الشجرة كان ليعرف الإنسان أنه عبد لله، وقد خلق الله الإنسان بحيث يمكنه الخطأ ، لان الله لا يخطأ ويجب ألا يشبهه الإنسان في هذا الأمر وإلا صار ندا له .كما أن قدرة الإنسان على الخطأ هي التي جعلتنا نتبين صفة رحمة الله فنحبه. وإن الله لما لم يكن محتاجا للإنسان فقد خلقه حرا ليعلم أن الله غير محتاج إليه وليحبه أكثر فإذا كان الله قادرا على تسييره كما يسّير النجوم والكواكب أعطاه الحرية بدون إعطاء سابق من الإنسان لله بل أعطى الله الإنسان الصلاح والحرية على أن يفعل ما يريد من حيث احتفاظه بما أودعه الله فيه من صلاح فيعطيه الله من رحمته الجنة، أو أن يفسد خلق الله الفطرة الصالحة التي منحها الله إياه، فيرسله الله إلى النار معادلا لما أنعم الله به عليه فضيّعه . والمعطيات التي اعتمد المسيح عليه السلام في إجابته واردة في جميع الكتب العقائدية، فكون الله وحده هو الذي لا يخطئ ثابت ، من تسمية الله لنفسه في القرآن الكريم بالبر والمؤمن، كما ورد ذلك في أناجيل المسيحيين (متى 19 : 17 ). وأن الله غير محتاج للإنسان ولا لعبادته فثابت من " ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله ما في السموات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا"( النساء :131 كما يتبين من النساء 170 ، إبراهيم :8 ، الزمر :7 ، الذاريات :56 ، 57 ) ومن قول أيوب عليه السلام في توراة اليهود " إن كنت بارا فماذا أعطيته أو ماذا يأخذه من يدك"( أيوب 3 :7 ، 8 ) ،ومن العهد الجديد " و لا يخدم بأيادي الناس كأنه محتاج إلى شئ . إذ هو يعطي الجميع حياة ونفسا وكل شئ "( أعمال الرسل 17 :25 ).

وأن الله على كل شئ قدير فيؤكده القرآن الكريم ( التغابن :64 ، الطلاق :65 ، التحريم :66 ، الملك :67 ، وغيرها) كما ورد في توراة اليهود ( مزمور:32 :9 ، أرميا 32: 27 وغيرها) كما ورد في أناجيل المسيحيين (متى 19 :16 ، وغيرها). وأن الإنسان حر في اختياره سبيل الهدى أو الضلال فيؤكده القرآن الكريم "وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر "(الكهف : 39 ،كما يتبين من الإسراء :13 ، الليل :4 ـ 11 ، الإنسان :3 ،البلد :10 ) ويورده العهد القديم ـ توراة وأنبياء اليهود ـ " لقد جعلت بين أيديكم الحياة والموت البركة واللعنة فاختر الحياة"(تثنية 30 :20 )" هو صنع الإنسان في البدء وتركه في يد اختياره .. الحياة والموت أمام الإنسان فما أعجبه يعطى له "(يشوع بن سيراخ 15 :14 ـ 19 ) والحياة هنا يقصد بها الجنة. وورد في رسائل المسيحيين أن كل من يدعو باسم الرب يذهب للجنة مهما كانت جنسيته ( الرسالة إلى رومية : 10 ، 12 ) وأن الله خلق الإنسان صالحا فقد أثبته القرآن الكريم (التين : 4 - 6 ، الأعراف : 172، 173 ،الروم : 30 ) و أورده العهد القديم  ( تثنية 30 : 11 - 14 ،الجامعة 7 : 29 ) ،والعهد الجديد- أناجيل المسيحيين ورسائلهم - ( الرسالة إلى رومية 10 : 8 ) ولكن وردت آيات بها أن الله يهدى من يشاء ويضل من يشاء ( الأعراف : 7 ، البقرة : 36 ، التوبة : 115 ، الرعد : 37 ، إبراهيم : 4 ، 27 ، النحل: 93 ، فاطر : 8,7 غافر  :34 ، المدثر : 31 ، البقرة : 10 ، آل عمران : 7 ، المائدة : 13 ،التوبة : 45 ، 46 ، 124 ـ 137 ). فيتمسك السطحيون بهذا الشطر و ما يشبهه و ينسون بقية الآيات و التي تشير إلى أن ذلك راجع  إلى رغبة الإنسان فالله يضل الظالمين ،الفاسقين ، المسرفين ، المرتابين، الذين في قلوبهم مرض . ويهدى إليه من أناب الذين آمنوا .. الخ ،و المراد بهذه الآيات و ما ورد في بابها في العهد القديم و الجديد ( حزقيال 14 : 9 ، خروج  33 : 19 ، يشوع بن سيراخ 11 : 15 ، 16 ، الرسالة إلى رومية 9 : 15 ، 18 ) ألا يعتقد الإنسان انه اهتدى بفضيلته بل بفضيلة الله فيه كما توضح ما قاله القرآن الكريم صراحة من أنه لا سلطة للشيطان على البشر ( سبأ :20 , 21 وغيرها ) وما ذكره العهد القديم ( الحكمة 1 : 14 ، طوبيا 6 : 17 ) مما يجعل الخوف من إضلال الشيطان - و الذي قد يجعل بعض الناس يعبدونه - على غير أساس . كما و يوضح القرآن الكريم أن الله لا يستعمل الشيطان لإضلال البشر و في العهد القديم أن الشيطان و الإنسان مملوكان لله ( أيوب 12 : 16 ) . ولكن هناك آية تعنى أن السيئات من الله و ليس الحسنات فقط " وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وان تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك قل كل من عند الله " ( النساء : 77 ) وجملة في العهد القديم تقول " أم يكون في المدينة شر ولم يفعله الرب " ( عاموس 3 : 6 )  .و المراد بالسيئات أو الشرور البلايا الدنيوية التي يصيب الله  بها عباده ليكفّر بصبرهم عليها ذنوبهم كالموت و الفقر والمرض و الجوع .. الخ . ولكن بعض الجهلة يفسرونها بأن الله يسير الخطأة للخطيئة فيعنى قولهم أن الله يأمر بالخطايا سبحان الله و تعالى عز و جل عما يصفون ،وقد قال الله صراحة انه لا يأمر بالفحشاء ( الأعراف : 28 ) و قال بذلك العهد الجديد أيضا ( الرسالة إلى رومية 7 : 7 ) . وقد قال المشركون أن لو شاء الله ما أشركنا نحن ولا آباءنا و يقصدون أن الله قد قضى عليهم بالشرك إذ أنهم يتبعون دين آبائهم المشركين ويرد الله عليهم بأن هذا ظن لا سند له من الحقيقة فلا علم يؤيده ولا كتاب " وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم من علم إن هم إلا يخرصون أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون " ( الزخرف 20 ،21 كما يتبين الأنعام 148 ، 149 ، الأعراف : 173 ) .

وإنه ليكفينا ما ورد من أمثلة في القرآن الكريم و العهد القديم و الجديد عن آباء خالفوا أبنائهم دينا و العكس لندرك ألا أثر لدين الآباء على دين الأبناء و العكس . بل إنه لا أثر للبيئة أيضا فقد نشأ إبراهيم و لوط والنبي عليهم السلام من آباء مشركين و في بيئة من المشركين و لكن ذلك لم يمنع أن يصلوا إلى النبوة وليس للإسلام فقط ، و إنا نجد تولستوى و نيتشه و هما قد ولدا بين الملحدين و الوثنيين يتحدثان عن الإسلام فينصفانه في كثير من الأحيان كذلك فإنا نجد أخوين شقيقين أحدهما عبد بار و الآخر فاسق ،وللمثال يوسف علية السلام واخوته. أن المسألة تعتمد على القلب السليم فصاحبه يعطيه الله الهدى ، "وإن من شيعته لإبراهيم . إذ جاء ربه بقلب سليم "( الصافات : 83 , 84 ) وعندما بدأ يتساءل عن إلهه هداه الله إلى ذاته ( الصافات : 85 - 99 ) . أن القائلين بالتسيير يقلبون الحقيقة رأسا على عقب فان واقع الأمر أن الإنسان لا يملك إلا الاختيار بين الخير والشر هل معنى القول بالتسيير إلا أن الله يرسل الرسل و الأنبياء للبشر سخرية و استهزاء . فإذا كان قد قدّر على هؤلاء بالنار واختار لهؤلاء الجنة فلماذا يرسل الأنبياء والمبشرين مع علمه أن المشركين لن يستجيبوا ، بل لن يتمكنوا من الاستجابة ، ألا يعني قولهم أن الله يسخر من البشر ، يعاقب الناس على ما لا ذنب لهم فيه، يعاقبهم على ما قدّره عليهم . يعبدون إلها لهم غير إلهنا ، فإلهنا هو الله الذي لا إله إلا هو الذي برحمته يرسل الأنبياء للناس ليتوبوا وليؤتيهم بتوبتهم التي هو سببها الجنة . إلهنا هو الله الذي يقول " والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما " ( النساء : 27   ) وكذا قال الله العهد القديم " لا أريد موت الخاطئ بل أود أن يتحول إلى التوبة " عن يوئيل في إنجيل برنابا " " هل مسرة أسر بموت الشرير يقول السيد الرب ألا برجوعه عن طرقه فيحيا " ( حزقيال 18 : 23 ) " لأني لا أسر بموت من يموت يقول السيد الرب فارجعوا واحيوا " ( حزقيال 18 : 33 ) وغيرها . وكذا قال العهد الجديد " " لا يتباطأ الرب .. وهو لا يشاء أن يهلك أناس بل أن يقبل الجميع إلى التوبة " ( رسالة بطرس الثانية 3 : 9 ) و الموت في جمل العهد القديم السابق ذكرها تعنى النار الأبدية . هل يقدّر الله إذا ما لا يريده ؟

وكما يهدى الله الذين يتوبون فان الذين يعودون عن إيمانهم يرسلون للنار ( البقرة : 217 ، المائدة : 54 ) وكذا الحال في العهد القديم ( حزقيال 14 : 7 ، 8 ، حزقيال 18 : 24 ، حزقيال 33 : 12 - 16 ) وكذا الحال في العهد الجديد عن الشعوب التي تتوب ، والشعب الذي تركه ( بنو إسرائيل ) ( الرسالة إلى رومية  9 : 25 ، متى 21 : 44 ، لوقا 3 : 8 ، 9 ، الرسالة إلى رومية 10 : 19 ،20 ) بل ولو أشرك الأنبياء لأخذ الله منهم النبوة و لأحبط أعمالهم ( الأحزاب 7 ، 8 الزمر : 65 ،66 ) وقد حدث " أن أعطى الله إنسانا النبوة فهجرها فاصبح من الغاوين ([1])" واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فاتبعه الشيطان فكان من الغاوين " (الأعراف : 175 ) . وكذلك الحال في العهد القديم ( حزقيال : 14 : 7 - 9 ) .

 ومما سبق نرى بوضوح أن الإنسان عبد لله  شاء أم لم يشأ كنتيجة لأن الله خلقه من عدم وخلق له أسباب بقائه و موته ، وقد خلق الله في الإنسان مشيئة مستقلة يستطيع بها أن يعمل خبرا بهدى الله و توفيقه أو أن يضل إتباعا لهواه ، رغم الفطرة الصالحة التي وهبها الله له . و إن لم نتمكن من معرفة كيف تعمل هذه المشيئة فان هذا لا يثبت عدم وجودها ([2]). ألا إن الحرية الحقيقية للإنسان ألا يعبد إلا الله فبذا لا يكون عبدا إلا لمن هو عبد له حقا .        

 


 

([1])تفسير الطبرى الجزء التاسع ص 119 " وكانت آيات الله للذى آتاه الله إياها فيما يقال : اسم الله الأعظم وقيل النبوة " وكان من الذين قالوا - النبوة - مجاهد والمعتمر بن سليمان . وفى تفسير القرطبى الجزء السابع ص 320 يضيف إلى المعتمر بن سليمان و مجاهد عكرمة . أما في تفسير ابن كثير الجزء الثالث ص 250 , 251 فيقول " كان قد أوتي النبوة فانسلخ منها "، حكاه بن جرير عن بعضهم و لا يصح " 

([2]) ملحوظة لابد من إيراد أن القول بالتسيير يعني القول بظلم الله

 

 

السابق