نشرت بمجلة لواء الإسلام عدد نوفمبر 1974

بسم الله الرحمن الرحيم

الأنماط العقائدية

 

أوضحت في مقالات سابقة أن دين الله واحد لكل البشر ، لم يختلف هذا الدين من نبوءة آدم أول البشر عن جميع المرسلين بما فيهم خاتم النبيين محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن اختلفت الشرائع. ويشتمل هذا الدين على الإيمان بإله واحد لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى، والإيمان بيوم آخر يحاسب فيه البشر كلهم على أفكارهم وأقوالهم وأعمالهم.

وقد احتاج البشر لأن يذكروا بهذا الدين والذي سبق وأودعه الله في فطرتهم ، ولما لم يكن في مقدور الإنسان بعد أن يرتكب الخطايا أن يسمع الله تعالى، بل الذين أسرفوا على أنفسهم لا يستطيعون سماع الملائكة عليهم السلام ، فقد كلف الله جبريل عليه السلام بإبلاغ الذين لم يسرفوا على أنفسهم (الرسل والأنبياء ) ليبلغوه بدورهم لبقية البشر ، ولا تخرج مهمة الأنبياء عن عملية الإبلاغ هذه سواء بالقول ، أو بالعمل فيقتدى بهم . وقد كان الإبلاغ يتم شفاهة أولا، ثم عندما تعلم الإنسان القراءة والكتابة، صار الإبلاغ كتابة. وجب الإيمان بعباد الله المبلغين لما يحتويه ذلك الإيمان من الأخذ بما أرسلوا به من الله جل وعلا، من توحيده وتمجيده وعبادته.

ولكن البشر انحرفوا في أعقاب كل رسالة أو نبوة . ويمكننا ملاحظة أن هذه الانحرافات أخذت شكلا واحدا في البعد عن الدين . ويمكن تقسيم الانحرافات إلى عدة أقسام :

أولا :الشرك حيث يمكن تقسيمه إلى شرك بالفكر وشرك بالقول وشرك بالعمل، ويؤمن المشرك بوجود الله ولكنه يشرك به بعض عباده في بعض أعماله أو صفاته.

ثانيا :الكفر ويمكن تقسيمه إلى نفس أقسام الشرك . وينكر الكافر وجود الله أو يجعل أحد عباد الله إلها.

ويمكن تقسيم كل أقسام الشرك أو الكفر إلى ظاهر ومختف عن الناس ومختف عن صاحبه ، وهذه الأقسام جميعا كمية وليست نوعية بمعنى أن الإيمان يزيد أو ينقص تدريجيا لينتقل من نوع إلى نوع.

فقمة الإيمان هي إيمان الله بذاته وصفاته والتي من أجلها سمّى الله نفسه المؤمن، فإن ما يقول به بعض المفسرين من أن معنى هذا الاسم إنما يعني واهب الأمن غير صحيح لأنه إذ ذاك يصير المؤمن بشديد الميم الثانية مع كسرها وواقع الأمر أنه لا يعرف قدر الله إلا الله لذلك كانت معرفة البشرية ناقصة . قال تعالى "وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه" ولو بذل البشر كل طاقاتهم لمعرفة ذاته لما استطاعوا لنقص إدراكهم لله ، يقول الله تعالى " لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار " والمقصود بالأبصار هنا ليس العيون فقط بل الأبصار التي في القلوب.. فالبشر جميعا لا يدركون ذات الله "ليس كمثله شئ ".. وليس هناك من يملك حق الشفاعة إنما سيأذن الله للبعض ولهذا يقول الله تعالى " أم اتخذوا من دون الله شفعاء قل أو لو كانوا لا يملكون شيئا ولا يعقلون * قل لله الشفاعة جميعا له ملك السموات والأرض ثم إليه ترجعون". وحتى الذين سيؤذن لهم بالشفاعة ـ وهم أكثر عباد الله إيمانا بطبيعة الحال ـ لا يحيطون به علما، يقول جل وعلا " يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا لمن أذن له الرحمن ورضي له قولا* يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما"

وكل البشر لم يعبدوا الله بكل طاقتهم فبعضهم آمنوا به جهد طاقتهم وبعضهم كفروا به بكل طاقتهم وبين هذين الحدين نجد الترتيب عباد الله الأنبياء ، البررة ، المؤمنين ، المسلمين، من أسلموا لله ( الذين شهدوا بشهادة الإسلام ولكن كان إسلامهم ضعيفا بحيث لا يمكن جعل الإسلام صفتهم ، فإن استعمال المصدر بدلا من الفعل يفيد تكرار الفعل وتأكيده ) ، الذين أشركوا ، وكل كبيرة من الكبائر يرتكبها الإنسان هي شرك ولكن إن لم يصر على ارتكابها فلا يطلق عليه مشرك ، المشركون ، الكفرة وفي قمة الكفر الشيطان .

والمعاصي درجات ، فبعضها كفر كالسجود لغير الله تعالى، وبعضها كبائر كالقتل بغير حق وكالزنى ، وبعضها صغائر كالنظر إلى النساء الأجنبيات ، واجتناب الكبائر يكفر الصغائر بفضل الله فقد قال الله تعالى" إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريما" والإصرار على الصغائر يجعلها في حكم الكبائر.

والإيمان الكامل هو الإيمان بالله وصفاته جميعا .يؤمن عباد الله الصالحون ـ بما فيهم الأنبياء ـ بها ولا يمكنهم إدراك كنهها، وكيف يدرك المحدود اللا محدود .

يخطئون وعليهم أن يستغفروا الله من ذنوبهم ، ويذكروا عظمة الله ، حتى يكفوا عن عصيانه ، فيغفر الله لهم من رحمته، يقول تعالى :" والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون" ويقول الله تعالى" ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة  ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا".

وكلمة الناس تشمل كل البشر بما فيهم آدم عليه السلام . ويقول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم :" إنا فتحنا لك فتحا مبينا . ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما " وهذا يعني أن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذنوبا قبل وبعد رسالته ولكن الله غفرها له. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كل ابن آدم خطاء وخير الخطاءين التوابون" كما قال أيضا "أتوب إلى الله في اليوم مائة مرة" أي أن كل البشر ظلموا وكلهم مستحقون للموت بذنوبهم . ولكن ذنوب الأنبياء عادة ما تكون عن جهل بالتشريع قبل أن يوحى به إليهم، أو كنتيجة لنزغ الشيطان لهم ولكنهم لا يلبثون حتى يستعيذوا بالله ويستغفروه فيغفر لهم ، يقول الله تعالى "وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم* إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون"

والصفات الحسنة لعباد الله هبة من الله تعالى ولوقت محدود ـ حياتهم في الدنيا والآخرة إن كانوا من أهل الجنة " وهدوا إلى الطيب من القول " يلقى العبد عنها جزاء إذا هو حافظ عليها. يقول المغيرة بن شعبة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى حتى انتفخت قدماه فقيل له : أ تكلف هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، قال أ فلا أكون عبدا شكورا .. ويوضح ذلك كيف كان رسل الله يدركون أن صلاحهم هبة من الله لهم كما يستفاد أيضا كيف كان أنبياء الله متواضعين لا يمجدون صلاحهم حتى ولو شهد لهم الله بأنه غفر لهم ما تقدم من ذنبهم وما تأخر. ولكنه برحمة الله ورغم أن جميع البشر أخطأوا فإن النبي صلى الله عليه وسلم وغيره من الأنبياء عليهم السلام بل والذين أسلموا سيدخلون الجنة بدرجاتها المتفاوتة تبعا لتفاوتهم في التوبة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " سددوا وقاربوا ، وابشروا فإنه لن يدخل الجنة أحد عمله " . قالوا :" ولا أنت يا رسول الله " . قال :" ولا أنا إلا أن يتغمد ني الله منه برحمة".

وقد بدأ الشرك بأن ظن المشركون أن هذه الهبات (الصفات الحسنة ) ملك لعباد الله فمجدوهم على ما لا يملكون . ويمكن تقسيم الاتجاهات التي اتجه إليها تمجيد الإنسان بغير وجه حق إلى:

أولا : تمجيد عباد الله الصالحين :

لقد وهب الله لبعض عباده الصلاح لأنهم أحبوا الصلاح ، وأعطى جميع عباده فطرة صالحة . ولكن الذين زاغت قلوبهم ظنوا أن صلاح عباد الله الصالحين ملك لهم فاستمروا يمجدون صلاح عباد الله. وسأسوق لذلك عدة أمثلة فقد كان ود وسواع ويعوق ونسرا من عباد الله الصالحين (عاشوا في الفترة بين آدم ونوح عليهما السلام ) وكذلك كان عزير (عاش في الفترة من رسالة موسى إلى رسالة المسيح عليهما السلام ) ، وكذلك كان المسيح عليه السلام. وكذلك كان علي رضي الله عنه .ثم بدأ قوم كل منهم في تمجيد صلاحهم والخوارق التي قام بها الله على أيديهم فسموا ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا وعزيرا وعليا أنبياء . فقد كان المنافقون دائما يحيون عباد الله الصالحين بما فيهم الأنبياء بما لم يحيهم الله به ، يقول الله تعالى " ويتناجون بالإثم والعدوان ومعصية الرسول وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير" وسمى قوم عزير ابن الله وسمى قوم المسيح ابن الله وسمى قوم علي ولي الله وتفيد هذه الصيغ التخصيص . وقد ورد في العهد القديم والجديد أن عباد الله الصالحين يرعاهم الله تعالى كما يرعى الأب أبناءه . فجعل اليهود هذه الرعاية مقتصرة على عزير ، وجعل قوم من النصارى الرعاية مقتصرة على المسيح عليه السلام . وجعل قوم عليا ولي الله وحده. وكون عبد من أولياء الله لا يعني إلا أن الله يرعاه. وواقع الأمر أنه ليس لنا نحن البشر أن نحكم بصلاح هذا وفساد ذاك . وأن نفاضل بين الأنبياء فإذا وضع الله في مرتبة الرسالة أو النبوة أحدا فكيف لنا أن نقرر أن هذا الرسول أو النبي أحسن من ذاك؟ ومن أين لنا أن نقرر من هم أولياء الله ؟ إن ذلك يستلزم أن ندرك ما في قلوبهم ، فأساس المفاضلة بين الناس هما الإيمان والتقوى . وكلاهما ليس في استطاعة البشر معرفته على وجه التحقيق، ولم يعط لبشر موهبة هذا التمييز ، حتى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يعطها يقول الله تعالى " ولو نشاء لأرينا كهم فلعرفتهم بسيماهم " فما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف المنافقين بظاهرهم. فإذا كان ما نعرفه عن أعمال بعض الناس خطأ فقد أمرنا الله ألا نسخر بهم فقد يكونوا أفضل منا " لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم " ونحن البشر لا نستطيع أن نحيط علما بجميع أعمال أي إنسان كان فلا يمكننا إذا أن نحكم من هم أولياء الله وإذا ثبت لنا جدلا أن إنسانا من أولياء الله فيجب علينا أن ندرك أنهم ليس لهم ولا لغيرهم من الأمر من شئ . يقول الله تعالى " ليس لك من الأمر شئ " كما يقول تعالى" وما لكم من دون الله من ولي ولا نصير"... ويقول تعالى "ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع" ونحن نعلم بما علمنا الله أنه فضل بعض الرسل على بعض . ولكن الله لم يذكر لنا من هو المفضل عنده منهم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا تفضلوا بين أنبياء الله فإنه ينفخ في الصور فيصعق من في السموات والأرض إلا من شاء الله ، قال : ثم ينفخ فيه أخرى فأكون أول من بعث أو في أول من بعث فإذا موسى آخذ بالعرش فلا أدري أ حوسب بصعقته يوم الطور أو بعث قبلي ولا أقول أن أحدا أفضل من يونس بن متى" .وقد أمرنا الله تعالى :" قولوا آمنا بالله وماأنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون". سبحان الذي هو بكل شئ محيط ألا له الحكم وهو أحكم الحاكمين.

لقد أمرنا الله أن نحب رسل الله جميعهم ذلك أننا لا نحب أيا منهم لأنه من نفس جنسنا أو بلدنا أو لجمال في شكله أو لرقة في طبعه بل لأنهم رسل الله الذي نحبه فكيف يختلف حبنا لرسول دون رسول.

ثم تطور الأمر إلى نمط آخر فقال المشركون أنه لما بقي من أجساد عباد الله الصالحين سلطة الشفاعة وقد قال الله أن له الشفاعة جميعا . كما قالوا أن لرفاتهم قدرة على الشهادة فحلفوا بهم ،مع أن الله هو الشهيد ،كما قالوا أن قبورهم تبارك ما حولها مع أن الله هو القدوس ..إلخ وتصور البعض أمرا آخر فقد تصوروا أن أقوالهم المدونة بواسطة غيرهم تبارك ، مع أن الله وحده هو القدوس ... إلخ .

ثم تطور حب الناس لعباد الله الصالحين ، حيث تصوروا لهم شكلا ووضعوه أمامهم ليتباركوا به أو ليستشفعوا به .. إلخ . وتناسوا الله الذي له الأسماء الحسنى جميعا.

ثم مع مضي الزمن اعتبروا عباد الله الصالحين آلهة مع الله . وأخيرا نسوا الله الذي له كل شئ فأصبحوا كفارا.

ولما كان الإيمان باليوم الآخر إيمانا بأسماء الله الباعث الجامع الحسيب كان إنكار اليوم الآخر كلية كفرا . هذا وقد كان إنكار اليوم الآخر على مرحلتين أساسيتين الأولى إنكار البعث بالجسد والثانية إنكار البعث كلية.

ومن جميع ما سبق من أنواع الشرك أو الكفر فإن هناك من ينكر أنه مشرك رغم يقينه بينه وبين نفسه بما يجعله مشركا . فمثلا إذا سألت يهوديا لماذا تعبدون عزيرا إذ تدعونه ابنا لله ؟ فسيسارع إلى القول بأنه ليس كل اليهود يقولون بأن عزير ابن الله ،وإنما نقصد بذلك أنه من عباد الله الصالحين. وهو يعلم أنه لكاذب ..إلخ.

ثانيا: تمجيدا سبل المعيشة :

هناك أنواع من الشرك لم تظهر كعبادة إلا في عصور قليلة جدا ، ولكنها كانت موجودة طول العصور كشرك خفي . أ لا وهي تمجيد سبل المعيشة كالمال والعلم والممارسة الجنسية والشهرة والمركبات والحكم والنباتات والحيوانات والنجوم والكواكب والقمر .. إلخ. وسندرس بعضها بشيء من التفصيل : المال والعلم والممارسة الجنسية ، ويمكن قياس غيرها من سبل المعيشة عليها. يقول الله تعالى" قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين" ومعنى الآية أن من تشير إليهم فاسقون . والفاسقون هم المنافقون إذا فحكمهم أنهم في الدرك الأسفل من النار ، وقد أثبت التاريخ أن بعض الأقدمين كانوا يعبدون الآباء والأمهات والحيوانات والأنهار وغير ذلك وهؤلاء جميعا هم من قال الله تعالى فيهم "أ فرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على قلبه غشاوة فمن يهديه من بعد الله أ فلا تذكرون."

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا يؤمن أحدكم حتى يحب لا يحب إلا لله " فعلى عباد الله المؤمنين أن يحبوا آباءهم وإخوانهم .. الخ لا لذواتهم بل لأنهم نعمة من الله الذين يحبونه، يحبون عباد الله المؤمنين لأنهم يؤمنون بالله الذي يحبونه. فإذا ما انفصل ما يريد آباؤهم أو أبناؤهم .. إلخ عن إرادة الله فضلوا ما يريده الله على غير ذلك . فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

المال : كان العرب أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيشون على الرعي لذا كان المطر في تصور بعضهم مصدر الخير ، وحدث أن أمطرت فروى رسول الله صلى الله عليه وسلم قول ربه " أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر  فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب ، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا ، فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب" وما يقال عن المطر في ذلك العصر هو ما يقال عن المال الآن.

والمال ابتكار جديد فقد عاشت البشرية حوالي المليونين سنة بدون نقود  ولم تظهر النقود في التعامل إلا من بضع آلاف من السنين. فلماذا نسمع البعض يقول إننا لا نستطيع أن نعيش بدون المال ، إننا لا نستطيع أن نصير أصحاء بدون المال ... إلخ ؟ أ لا يجعلهم هذا القول مشركين للمال في ملك الله تعالى للحياة والموت، للصحة والمرض؟

الحق أقول أن من يقتل إنسان في سبيل المال فإنما يكون بمنزلة من عبد المال وقدم له قربانا ذلك الإنسان الذي قتله. والذي تلهيه تجارته عن ذكر الله والصلاة فقد أشرك بالله، والذي يتذلل لأغنياء الناس حتى يحصل على بعض من أموالهم فإنه كمن يعبد المال في شخص هؤلاء . وما هم بمالكين لهذا المال بل هو دين سيطالبهم الله بحسابه في الآخرة فإن أحسنوا استعماله كان لهم به خير وإن أساءوا استعماله كان لهم شرا مستطيرا.

ومانع الزكاة وهو يعلم أنها واجبة عليه مشرك بقول الله تعالى " والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم * يوم يحمى عليها في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون " . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة " ولا يمكن أن يأمر الله رسوله بقتال مسلم أي أن مانع الزكاة مشرك ومثل الذهب والفضة الأوراق النقدية التي يتعامل بها الناس ، ونحوها.

والجنس : الذكورة والأنوثة ، لم يخلق في الإنسان الأول ابتداء ولكن الله كتبه على الإنسان كنتيجة لخطيئته ذلك أن الشجرة التي نهي آدم وزوجه عن أكلها هي التي صيرت آدم وزوجه ونسلهما من بعدهما ذوي جنس . ذلك أنهما كانا عاريين ولكنهما لم يكونا يشعران بعريهما. ويبدو أن هذه الشجرة كانت تحتوي على بادئ هرموني نشأ عنه الهرمونات الجنسية وقد كانت مشيئة الله في ذلك أن يعرف البشر أن الله إذ يحرم شيئا على البشر فإنما يحرمه لمصلحتهم . ويعوض الآباء أبناءهم عن ميلادهم في الدنيا بدلا من الجنة فنسك الختان هو التكفير الذي سنه الله لخطيئة آدم الأولى. وإذ أودع الله هذا الأمر في قلوب البشر فإن الختان من الفطرة. فالفطرة هي الطاعة لأوامر الله . يقول الله تعالى " فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله ". ومن الجلي أن المقصود بأمر الله هنا الفطرة، فلم يرد في القرآن الكريم نص يشير إلى حيث تشير الآية مما يؤكد الفطرة الصالحة التي تحدد مكان إتيان النساء وأنها هي المقصودة بأمر الله في الآية.

والمستفاد من ذلك أن آدم عليه السلام عاش فترة من حياته بدون ممارسة للجنس ، كما عاش المسيح عليه السلام إلى أن رفعه الله إليه.. وإن لم يكن هذا هو القاعدة وسيزوج المسيح عليه السلام عند عودته فإن ممارسة الجنس ليست ضرورية في حد ذاتها ولكنها وسيلة لإكثار النوع الإنساني، كما أنها ليست الطريقة الوحيدة للإكثار فقد خلق آدم عليه السلام وحواء والمسيح عليه السلام بدون ممارسة للجنس .

فإذا كان الله من رحمته قد أحل الممارسة الجنسية مع الزوجة ومع الإماء وأمر غير القادر على زواج الحرائر بزواج الإماء المسلمات ، وأشار رسوله بالصيام لتحديد النزوة الجنسية فما حجة البشر بعد ذلك التي بها يزنون. وأحب أن أشير هنا إلى أن الزنى في تعاليم الإسلام قريب من مرتبة الشرك إذ يقول الله تعالى " الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين". والشذوذ الجنسي قريب من مرتبة الكفر فقد أهلك الله قوم لوط رغم أنهم كانوا يقولون أنهم يعبدون الله لما كانوا يأتونه من شذوذ جنسي وسنة الله أن يهلك من الأحزاب الكافرين. كما أن إرضاء الزوجة بما يغضب الله إثم . أما ممارسة الجنس مع الحليلة ابتغاء ما أحل الله فله ثوابه وللحليلة ثوابها. وللشرك والكفر بالممارسة الجنسية في بعض العهود أصنام عبدت وسميت آلهة فقد عبد الرومان والإغريق آلهة لهم كفينوس وإفروديت و كيوبيد.

ويقول الله في كتابه العزيز " زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب" ويفهم من كلمة "زين" أن الأمر ليس حقيقة جميلا بل إن المتاع الحقيقي هو في الحياة الآخرة. ويقول الله تعالى :" المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا". ويلاحظ كلمة "الباقيات" فإن العمل الصالح يبقى تأثيره مستمرا ولكن لذة هذه الشهوات لا تلبث أن تنطفئ بمجرد الحصول عليها ثم تعود الشهوة من جديد. كما أن هذه الشهوات إنما تزين الحياة القريبة المنخفضة القيمة ـ معنى كلمة دنيا ـ أما نتيجة الأعمال الصالحة فهي المتعة التي لا تنتهي في الحياة الآخرة. ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم " لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن.

أما عن العلم فينبغي للذي يدين بالتوحيد أن يدرك أن العلم علم الله يهب منه من يشاء ما يشاء ولا ينقص ذلك من علم الله شيئا . وأقف هنا أمام إحدى آيات القرآن الكريم إذ يقول الله تعالى فيها " وعلم آدم الأسماء كلها " وتعني هذه الآية أن الله قد علم آدم عليه السلام الأسماء الحسنى جميعها وأسماء جميع المسميات ، حيث يفيد الإطلاق (الأسماء) الشمول . لذا كان آدم أعلم البشر ولكن آدم عليه السلام عندما هبط إلى الأرض واضطر إلى مصارعة قوى الطبيعة المختلفة نسي كثيرا مما علمه الله . ولكن آدم بطريقة ما أورث ما تعلمه لنسله من بعده ، فتذكر كل منهم من العلم الإلهي ما تذكر.

كلمة العلم في القرآن الكريم إنما تعني العلم الذي يؤدي إلى الإيمان بالله ، فالإيمان بالله هو اليقين بالحق الذي هو الله ، أما العلوم الإنسانية والتي يستخدمها الإنسان لممارسة الحياة فهي وإن وصلت إلى مرحلة اليقين فإن يقينها بفان ألا هو المادة والمخلوقات الحية وظواهرها وهي ستفنى حتما قبل يوم القيامة، ويندر أن يصل الإنسان إلى اليقين في أي مجال من مجالات المعرفة. والعلم في اللغة إنما يشير إلى اليقينية . ومن هنا فالأصح أن تسمى المعارف التي يحتاجها الإنسان لممارسة الحياة معارفا لا علوما.

وقد أعطى الله الناس من المعارف بدرجات مختلفة، ويحاسبهم على قدر معرفتهم وينبغي أن يلاحظ هنا ما قاله المنصفون من أهل العلم الدنيوي من أن اكتشاف النار يعادل في قوته اكتشاف القنبلة الذرية . وقد كان اكتشافا النار منذ أكثر من مليون سنة . والمستفاد من ذلك أن الفكر الإنساني لم يتقدم في حد ذاته وإن كان الإنسان المعاصر قد استفاد بمعرفة من سبقوه من البشر ـ فيما عدا ما فني عنه أصحابه كطريقة التحنيط مثلا ـ عن طريق الكتابة فظهرت قيمة المعارف كعامل قوي في حضارة الأمم ، وقد أمر الله بالتعلم " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون"... وأمر بعدم كتمان العلم .. وكذلك أوصى رسوله صلى الله عليه وسلم . وحتى المعارف الإنسانية فقد أمر الله باستحواذها حين يقول جل وعلا "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة " فمن المؤكد أن المعارف الإنسانية من ضمن مظاهر القوة. وقد أعطى الله المعارف الإنسانية إلى أنبيائه في العصور القديمة ، فأعطى الله تعالى نوحا عليه السلام طريقة عمل الأطواف ـ سفينة نوح ـ ، وأعطى داود عليه السلام طريقة صهر المعادن ، وأعطى لأيوب عليه السلام دواء لشفاء أحد الأمراض المستعصية وغير ذلك. كما أعطى بعض المعارف للكفار ليبتليهم بها وعلى المسلم إذ يتعلم من الكفار علوم الدنيا أن يميز الخبيث من الطيب فيها وألا يمجد معارفهم فما هي بقادرة على نفعهم إلا بإذن الله وما هي بضارة إلا بإذن الله . وقد ورد بالقرآن الكريم مثال يوضح أن الإنسان إذا ظن أن معرفته هي سبب ما هو به من مجد أو ثروة أو خلافه ، أو يظن أنه علم بمقدرته وليس نعمة من الله عليه فقد أشرك وهو قصة قارون. فقد آتاه الله مالا وفيرا وعندما نصحه قومه بالابتعاد عن الظلم والإفساد في الأرض والفرح وأمروه بالإحسان وبالزكاة" قال إنما أوتيته على علم عندي" يقول الله مستنكرا ما قاله قارون "أ ولم يعلم أن الله قد أهلك من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون* فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا يا ليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم * وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا ولا يلقاها إلا الصابرون * فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين* وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن من الله علينا لخسف بنا ويكأنه لا يفلح الكافرون".

ثالثا : تصديق الدجالين :

ولما كان الذين يمجدون سبل المعيشة بقلوبهم ويدعون الصلاح يخدعون عباد الله المؤمنين فإن الله برحمته وعدله في ذات الوقت يهيئ الطريق أمام الدجالين فتنة بل ويمدهم أحيانا بمعجزات حسية (للمثال قصة السامري الذي حول الله على يديه الذهب الذي سرقه بنو إسرائيل من مصر إلى عجل له خوار ) ليستجيب له المنافقون الذين يدعون الإيمان ليأكلوا أموال الناس بالباطل فينكشف أمرهم لكل ذي عينين فيكون هذا رحمة لعباد الله المؤمنين ، ويكون بعدل الله أن يؤمن المنافقون بالدجالين فيزدادوا كفرا.

يقول موسى عليه السلام فيما رواه عنه ربه "إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين " .. فما أسهل أن يغير المشرك صنما مختفيا بآخر ظاهر . ولكن ما يصعب عليه هو أن يترك الشرك إلى عبادة الحي الذي لا يموت. ومن هؤلاء الدجالين من يلبسون ثوب الفضيلة زورا مدعين أنهم رجال دين أو أنبياء يبشرون بمدح من اشتهر صلاحهم بين الناس ويظلون يمجدونهم حتى يعبدهم الناس في النهاية ظنا منهم أنهم آلهة وما هم بآلهة . ومن الدجالين من يبشرون بالكفر صراحة فيحولون الإلحاد لدى المنافقين إلى إلحاد ظاهر. ولا يستجيب للدجالين إلا المنافقون ولو كانوا يلبسون ثياب الفضيلة زورا ذلك أن كل نظير يحب نظيره.

ويدخل ضمن هذا النمط الذين يؤمنون بسلطة الجان وما لهم من سلطة فيدعونهم لشفاء المرضى ولكشف الغيب ولإيذاء الناس وما إلى ذلك .. وفي النهاية يتطور الأمر بهم إلى جعل الشيطان إلها للشر.

وهدف الدجالون دائما هو المال أو الشهرة أو الحكم .. إلخ . أما المنذرون الحقيقيون ( الأنبياء والصديقون ) فإنهم يمجدون الله الحقيق وحده بالتمجيد ، ولا يطلبون لأنفسهم شيئا في الدنيا من الناس، ولذا وصف الله تعالى جميع أنبيائه بأنهم لا يطلبون أجرا وهم يضعون عباد الله الصالحين في مكانهم الحقيقي كما وصفهم الله بدون غلو.

فإذا أدركنا كيف يقع الإنسان في الشرك بفكره أو بقول أو عمل وأحيانا بلا وعي منه هان علينا أن نفهم قول الله تعالى " وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون" . أعوذ بالله وإياكم من الشرك ظاهره وباطنه إن ربي لسميع الدعاء.

 

 

السابق